Friday, September 28, 2007

هذيان


زحفت إلى سريرها وهي تلملم ما تبقي لديها من طاقة تمكنها من أن تمارس طقوس نومها اليومية، فمنذ أن توحشت المسافات بينهما وهي تتحاور مع خياله يوميا وعن نفس الموضوع ربما بنفس التراكيب والتعبيرات، حتى ينهكها البكاء علي ما آلت إليه، فيغلبها النعاس استعدادا ليوم جديد في فجيعتها.. إلا أنها وعلي غير العادة بدأت طقوسها بالبكاء.. فطاقتها المتبقية من أثر أحداث اليوم لم تكن كافية لتقوم بطقوسها علي أكمل وجه. من قبل كانت تبكي حنيناً للحظة بين ذراعيه لتُسقط عن ذاكرتها ثقل غيابه الغير مبرر.. إلا أنها اليوم تبكي يأساً من تأكدها المطلق أن اللحظة المرجوة لن تأتي..فهو لم يعد لديه من الوقت لأن يدغدغ مشاعرها بحضن يلملم أشلاءها التي تتبعثر لغيابه، أو لمكاملة هاتفية في منتصف الليل تنقلها لعالم آخر حيث الدفء والسكينة. فقط اليوم أحست أنها ثقلا علي كاهله، غصة في حلقه يحتملها بالكاد.. ربما لم يعطها أي إشارات لذلك ..أو أنه لم يصل إلي تلك النتيجة بعد ..إلا أنها لديها من الحساسية تمكنها من أن تشعر به قبل أن يفعل هو.
نظرت إلي مدونتها الورقية الفارغة التي أهداها هو إليها ..علي وعد منه أنه سيلهمها أن تكتب.. فهو علي يقين أنها ستكون إيزابيل الليندي العرب .. قررت أن يكون أول من تكتب إليه.. ليس عرفاناً له بالجميل.. إنما تصديقاً علي وعده الذي وعد. كم مضي من الوقت لم تخط حرفاً..يديها اللاتي كانتا ترتعشان كفيلان بإحباط محاولتها للكتابة..إلا أنها كتبت له رسالة ..لم تنوي قط تسليمه إياها..فقط تخرج ما لديها .. تقرأ نفسها ..تٌشهد حاسة أخرى علي فجيعتها
.
"
أعلم أنك لم تعتاد أثناء علاقتنا أن نتواصل عبر الورق. إلا أنها علي ما يبدو الوسيلة الأفضل ربما لأن المساحات تتلاشى، والأوقات تتضاءل، وأذنيك لم تعد تقوي علي احتمال عبثي وتفاهاتي.
لن تصل لتقدير منصف في كم من الوقت استغرقتني هذه الرسالة..ربما شهران أو ثلاثة ..كل ليلة أنا علي موعد مع الضجيج ..ضجيج الأنين بأعماقي ..كل ليلة يصرخ في ..اكتبيني! وأنا أتجاهله، ربما خوفي من أن يصبح مرئياً أمامي. ألا يكفي صداعاً مزمنا وقلبا مهرتئاً؟!
لن أطل..فأنا أعلم ضيق الوقت. كل ما أردت أن أبثه فيك هو أنني بت املك من الفقد ما يكفي لعقود، فرجائي لك سابقا بأن تضع حدا لهذا الفقد الذي أتنفسه لم يكن حالة كتابة، بل كان ضجيجاً يخلفه الأنين بأغواري.
صراخي فيك أمس.. أدهشني، فرغم انفلات أعصابي المتناهي دائماً لم اجتاز تجربة كهذه معك. علي أي حال صراخي لم يكن لتلك الأسباب التافهة كما كانت تصلك كلماتي، ربما كانت مرادفات لمعاني أخرى، ربما أنطق بأشياء هي في الأصل تكويد لكلمات أخري. كل ما شعرت به أنني أريد أن أصرخ بالقوة ذاتها ولكن بتراكيب مختلفة. أمس فقط تأكدت حاجتي للصراخ فيك..صراخاً يفصل أجزائي..يسقط لحمي من عظامي حتى أتلاشي، كما تلاشت مساحاتي لديك.
أعتذر إن كان حديثي مؤلم، فرغم أن هدف كلماتي أن أقول لك " لا ألم بعد اليوم " إلا أنني أنضح ألماً..
أعلم أن سطوري هذه ليست صادمة لك، فأنت أذكي من ألا تتوقعها ..ربما تصل بي ظنوني أنك تنتظرها أيضاً..أتنتظر انسحاباً حقاً ؟!
أشعر وكأنني اجتث من جذري وأنا أكتبها. أعتذر لك عن أنانيتي التي ستتهمني بها، أغفر لي فجراتي معك، عدم احتوائي لك، صراخي فيك، عدم احتضاني لك، رغبتي العارمة في أني أبكي وأنا أتنفس أنفاسك.
سابقاً كنت أظن أنني قادرة علي احتمال هلاك الحنين إليك، إلا إنني اكتشفت أنني بعت جلودي من اجل قضية خاسرة
كم سأحترق إلي دفء صوتك، احتضانك، احتوائك لي في أشد لحظات الحياة احتضاراً. إلا أن طمعي في أن يستمر هذا منعني من أن أخفض سقف توقعاتي. كثيرة هي الليالي التي كنت أتفحم فيها بكاءاً فقط لأنني لست بين ذراعيك وأتلحفك، قاسية هي الساعات التي انتظرتك فيها ولم تأت. أصبحت كمن يتوق إلي المطر في موسم الجفاف فلا يصيبني سوي اليأس والضجر.
أعتذر عن انسحابي، فأنا أتكسر في اليوم آلاف المرات، أتبعثر ويعاد تكويني، جدراني سئمت آهاتي. أعتذر أيضا عن أي ألم سابق قد آذيتك به وأي ألم حالي أرهقتك منه. لن أنتظر منك محاولات لاحتوائي.. يكفيك من الهموم ما لديك. بقي شئ آخير..هو أنني لم أسطر رسالتي هذه إلا بعد يقين بأنك لن تتألم لغيابي."